نقف (بعين ناقدة) أمام لوحات ( ماهود احمد) التي عكست الانفعالات المحبطة، الخائبة وأظهرت بشكل جلي باعا في المعالجة التصويرية وخاصة البناء العام، الكتل الكبيرة والصغيرة، مساحات الضوء والظلال الحادة، التلاعب الفطن بمساقط الرؤية، الحساسية العذبة باللون ومعالجته وصياغته وخضوعه للبناء العام أمثال لوحاته: الشمر، مرد، الرأس، أسد بابل، عشتار، الأسطورة الزرقاء، ضاربات الودع، قارئة البخت، السأم، الحافة، الذئب، الفانوس، المرأة، العودة إلى الجذور، ( لاحظ عنصر الرمز متجسدا من خلال العناوين)..
إزاء ذلك كله فان تجربة ماهود احمد كانت صادقة كل الصدق في تثبيت الوضع الاجتماعي لأشخاصه المرسومين حتى كأنك تشعر من أية طبقة انحدر هذا الرجل وتلك المرأة وفي أي وضع معاشي يحيا هؤلاء الفلاحون وأولئك الأطفال.
كان يُعنى بخلق الانسجام بين الموضوع وبين مزاجه فبلور بذلك الجانب التعبيري في نزعته الواقعية وجعلها تشتمل على حس معمق بالبيئة الاجتماعية ورموزها وقد ظهرت لوحاته بهذا الموقف الاجتماعي ظهورا صعبا، إذ انه تلمس موقفه تلمسا.. ولكن تجربته شقت طريقا صعبة حطبها بفكره وجهده وموقفه بعد أن تجاوز لجج ( الستينات) وخلص ( ذهب) تجربته من ( زبد) التأثيرات الأجنبية التي كانت سائدة كالتجريدية الذهنية الشائهة والشكلية العقيمة..
انبثقت تجربة ( ماهود احمد) كالنبع الصافي في مجرى لم يكن احد يفكر العوم فيه ولكن لرائحة المستقبل شفاعة أبانت عن عمق رؤيته. فأعطى بذلك لتجربته بعدها الاجتماعي وشروطها الإنسانية وأكد للفن أخلاقا نقدية حتى غدونا نميل إليها بشكل أعمق وصرنا نحب رؤيته المترعة بالثورية و( ماهود احمد) دقيق التوازن بين المنفعة التي يتعرفها العقل والجمال الذي يتعرفه لشخوصه المرسومين، يمثلوننا جميعا نحن الفقراء الذين نريد ترجيح فعل المستقبل لصالحنا بمقدار رجحان كفة الموقف الجمالي الواعي لتطور المجتمع..
لماذا نتذكر لوحات (ماهود احمد) دون سواها من اللوحات التجريدية الشائهة ومن التجارب الشكلية المثالية ؟ لماذا نتذكر لوحات كاظم حيدر ونزار سليم وفائق حسن وجواد سليم ؟ لماذا نتذكر ونميز ؟ ونقدر ونقرر ؟ لو لم يكن في مخزون ذاكرتنا مثل هذا الغنى والاكتناز المعرفي لما كان بمقدورنا بناء أية لبنة في صرح الحضارة.. ولو لم تكن ( لوحات ماهود احمد) مشفوعة بتلك الذاكرة لما كشفت تجربته الفنية عن مداها وأبصرتنا بأصولها الاجتماعية ولأبعدنا عن غاية الفن ودوره في الحياة الاجتماعية. لكن (ماهود احمد) قد تناول جانبا مهما من شرائح المجتمع العراقي.. في عالم الاهوار.. والفلاحين وجعلها تجربة تمارس دورها المؤثر في عيون وأفكار المشاهدين وأحاسيسهم وطبائعهم.. تناولها كما هي في مجتمعه ولكنه حملها بأفكاره هو بأحلامه عن صنع ألذات وعن مستقبل هذه الشريحة التي ينتمي أليها في الأصل.. ولوحاته تشير وتحدد خطة العام بشكل متماسك ومرتبط فكريا بصياغة متميزة ومعالجة متقدمة منحها حبه وجهده وعبرت عن ( معطى الحرية) في تحديد مضمون عمله الفني.. وذلك عنصر يسبغ على تجربته سمة ملونة بالثقة والاطمئنان..ان شكل العمل الفني بوحداته المكونة لمعناه أو تصميمه يتحدد بمضمونه والفنان المبدع، هو الذي يكون بتصوره الخاص عما يحيط به رؤيته وطابعه وهو ينشد بذلك وحدة الشكل والمضمون وقيمتها الجمالية والاجتماعية.
من النماذج المختارة لوحة ( المرأة) التي رسمها ( ماهود احمد) بالزيت عام 1980م، تحمل إلى المشاهد ذلك الإحساس، وفي اللوحة فتاة تحمل بيدها ( مرآة) تتطلع إلى حسن وجهها، وقد ارتدت ثوبا فضفاضا وأمامها مساحة واسعة من ( مسطح ماء الهور) في موسم ( فيض المياه) لهذا اتخذ له لونا طينيا على اخضرار من الموج ، وكانت الريح شرقية دفعت بخصلات شعرها إلى الشمال الغربي مكونة حركة متناغمة خاضعة إلى نفس حركة مياه الهور ومتعاكسة واتجاه طيات ثوبها، وهي تهدي بنظراتها- خلال مرآة نفسها- حزنها إلى المشاهد كما أهدى ( ضيف يوسف) المرآة ليتذكره كلما نظر إلى وجهه، وهكذا فان صنع الجميل لا يرى ألا من اجل العين المبصرة.. ومتى كانت الألحان من اجل إذن صماء ؟
نتأمل اللوحة مرة أخرى ونندمج بتفاصيلها وخاصة ( بعينيها) الواسعتين وشفتيها المزمومتين على أمر حارق وخزامتها التي تطوق وردة انفها بدلا من إصبعها.. وقسمات وجهها الفاتنة:
همت بإتياننا حتى إذا نظرت إلى المرآة نهاها وجهها الحسن
كل ذلك الوصف يتقرب إلى المشاهد بالنوافل حتى يحب العمل الفني.. وإذا ما أحبه فانه سيفهم كيف يعاني هذا الرسام وكيف يفكر خفية عندما يختلي مع لوحته حيث تتفاعل عض الحقائق المحتجبة وتبقى ( اللوحة البيضاء) أمام الفنان كما يبقى الطفل بعد ولادته صامتا حتى يتعلم الكلام.. ومتى ما عرف المشاهد كيف يرى اللوحة ويتفاعل معها، فستتحول ( بصيرته) من رؤية الغراب إلى رؤية الطاووس وكما علم الله النحل كيف تصنع الشهد، سيتعلم المشاهد كيف يقرأ العمل الفني الإبداعي فيدرك حقيقته ويفضح سره كما يفضح الربيع سر البذور تحت الأرض.. ويأتي دور الناقد الموضوعي ليقرب إلى المشاهد التفاصيل التي أدركها في الأثر الفني فيكشف عن لون الخيال في باطنها، ومن يكتب بدون بصيرة عن التجربة الخلاقة في الفن فانه سيكشف عن سريرته كما تكشف شقائق النعمان عن باطنها.. وفي جميع لوحات ماهود احمد تشكل المرأة عنصرا أساسيا هي ألام – الأرض – العطاء – المستقبل. وهي ( الحالة) والضرورة والفعل المبدع والرمز والحافز، وهي تمثل قيمة اجتماعية جوهرية في مجتمع نام محاط بخلفية ثقافية من الأخلاق والقدرية وفيها نصيب كبير من التأثير الروحي الذي يحز من ألانا السفلى منذ قرون متباعدة وها هو ( ماهود احمد) يرى في جمال المرأة العراقية رمزا لمهمته الاجتماعية التي يحملها من وعيه التاريخي وإدراكه الثقافي، ما يجعل تجربته تعبيرا وتفسيرا لدور الفن الحقيقي في الحياة وهو لا يبخل بحبه لها، يهبها كل ما تشتهيه المرأة من زينة وحلي وجمال وفتنة فهو يصورها ممتلئة بالعافية وقد بلغ به الهوى أن زين جسدها بالوشم، إذ انه نقش عليه بالإبرة صورا وأشكالا مزخرفة وهندسية ونباتية ودوائر وأهلة وما وهن قلبها من ضربا أبرة الوشم، لأنها ترى في ذلك ( خشلا) يوازي في دلالته (خزامة الذهب) والوردة و ( الكترا) والمعاضد والقلائد.. وكان يختار مع ذلك الوشم أجمل ما يطرز ملابسها من نقش وزخرف زاه بالألوان البراقة التي تحبها ( المرأة الجنوبية أو الشمالية) ليم بها محاسنها ومفاتنها..ويخضب ( الفنان) أقدام نساء ( لوحاته) بالحناء ويعصب رؤوسهن بعصائب من الجوهر ويضع لهن فوق وشم الحاجبين الأخضرين ( مسكا) يصوره الفنان باللون ( الاوكر المخضر) كلون ( الديرم) و( السعد) بعد أن وهن قلبه من ضربات إبرة الوشم على البدن واليدين والكتفين والكشحين بدون أن يصيبهن ضٌر لأنهن ينشدن تثبيت لحظة الجمال.. والحقيقة الأخرى: أن لكل حالة وصفة وسمة يرسمها الفنان ( ماهود) في لوحاته، قصة في الموروث الشعبي، وعلاقة اجتماعية مرتبطة بدرجة تطور المجتمع العراقي وخاصة في ( جنوب العراق) بواقعه وخواصه وخلفياته الحضارية، وبتفسير بعض ظاهراته النفسية والجمالية..
وتلك هي صفات الأشياء وخصائص الأفكار في المواضع التي يرسمها فهو فنان لا يصطاد ظل الطير، بل يسعى أليه سعيا، ومن هنا نؤكد أن جمال مواضيعه يكمن في ذواتها لا في الانطباع المتكون عنها وحسب..لماذا يرسم المرأة ( المتمدينة) ضعيفة ( رشيقة) شاحبة ويرسم (لقروية) جميلة، قوية، حيوية المظهر ؟
إن ( ماهود) نقل لنا رأي الرجل ويميز نظرته إلى المرأة في الوضعين (المدني – والريفي) حيث تختلف نظرة الرجل الريفي في المرأة المتمدنة عن نظرة الرجل الحضري للمرأة القروية.. كذلك قارن بين أقدام نسائه وارتباط ذلك بالأرض التي تفلحها من سواها من
( الحضريات) وربطه بمفهوم العمل وبقيمة الجمال الناتجة عنه قصد المنفعة.. انه لا يرسم من العدم ولا يجني من لوحاته اللاموقف فهل سبق وان ( جنيت) الورد من لفظة ( الورد) ؟
ونرى ( رمز المرأة) في لوحات أخرى وقد اتخذ له دلالات مختلفة وإشارات متنوعة، ففي لوحة ( الشمر) أو ( الدجال) التي رسمها بالزيت عام 1972م، تظهر المرأة ، والأم والزوجة والأخت ( عراقية) روحا ومظهرا ودلالة جمع الفنان فيها كل صفات الظاهر وريحان الباطن أمام رعب الدجال قاتل ( الحسين بن علي) حامل راية الموت وسلاح الدجل والافتراء، ويعتلي جوادا مهانا بجرس الفسق وملتحفا بسرج موشح بالقنابل و( بالدولار الأمريكي) والنجمة الصهيونية.. انه دجال القرن العشرين، وقد أظهره بدرجات حمراء حادة تضادت مع الخلفية الداكنة المحيطة باللون الأزرق والبنفسجي محتشدة بوجوه النساء الحزينة، حيث أكد من الجانب الأيسر من اللوحة على تصوير ( أم) تحمل في أحضانها طفلا وقد مدت يدها باتجاه يمين اللوحة لتملأ مساحتها ويتجسد في ملامحها رفض وصرخة فزع من راية الشمر (الدجال) المحمولة على( رمح) الغدر والموت وخلفها ( هودج) ( السبايا) وقد اخذ هيئته من الهوادج الشعبية وفي أرضية اللوحة نساء نائحات ومقطع من شناشيل عربية قابلها في الطرف الأيمن (ضوء شمعة) وسط ظلمة الماضي المتباعد في زمنه..
الوجوه المرسومة في لوحاته هي وجوه أمه وأخواته وأهله وذويه لأنه يشعر بها شعوره بالانتماء الداخلي والاجتماعي لهم، ينتمي إلى ذلك انتماء البذرة للتربة.. نساؤه في لوحة (الدجال) ، رافعات رؤوسهن غاضات أبصارهن محترقة أكبادهن من شدة البكاء، يسحن دموعا هاملات وكأني أرى كل واحدة منهن تقول:-
نزف البكاء دموع عينك فاستعر عينا لغيرك دمعها مدرارا
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عينا للبكاء تعارُ
ومع هذا فسماء لوحته خضراء اشتملت على سحاب هي مصدر الخضرة وشارة سعد للمستقبل..
وماهود احمد يعاود الاغتراف من مادة تاريخه ومن موروثه الشعبي في لوحته ( مرد الرأس) التي رسمها بالزيت عام 1972م، ويكرر ذلك العود في لوحه ( أسد بابل)، عام 1973م، وكأنه يضع ثلاثية لموضوع واحد بمعالجة واحة وبرموز متوازية يقارن الاستعارة التاريخية (في الماضي) بالاستعارة الشعبية ( في الحاضر)، وهي تمهيد لثلاثيته ( الزرقاء) ولكن بحس أسطوري (تأريخي): بانتظار عشتار (1971) ولوحة الأسطورة الزرقاء (1972)، والحصان الأزرق(1979)، وقد استعار أفكارها من ملحمة( كلكامش) وقد سبق أن حقق ذلك للأستاذ (طه باقر) في رسوم الحفر التوضيحية لكتابة ( ملحمة كلكامش) في اللوحة الأولى من الثلاثية، نرى فتاة وحيدة بجوار حصان وهي تنتظر عودة كلكامش.. إنها ( اشخار) المرأة التي نصحت كلكامش بعدم جدوى البحث عن الخلود لان الحياة الحقيقية كما عبرت له عن ذلك: ( أن تأكل وتشرب وتنام في أحضاني).. وكأنني أتخيل كلكامش لدى ملاحظتي له يقول: ( لا كان قلبي فقد شقيت به، وعندي حسرة في الحصول على الخلود وقد شامت عيناي دمي)..
وفي اللوحة الثانية نرى الفتاة ذاتها تحتضن تمثالا هو رمز الأرض والجنس على هيئة طوطم سومري، والفتاة بجوار كوخ على ضفة النهر: ذات الغربة، ذات الرموز..
وفي اللوحة الثالثة، اشتد بها الحزن من الانتظار وباتت اسخن خلق الله.. عينا ونراها في لوحة (السأم) عارية وبجوارها ( صينية) الشاي وكأنها خرجت لتوها من العالم الشبيه بالرحم، بلا حركة ولا صوت لأنها معتلة بمن تهوى:-
قالوا قد اعتل من تهوى فقلت لهم ويلي إذا لم أجد مثل الذي وجدا فأن خالفنا للحب مبتدعا لم يفرد الروح لما افرد الجسدا..
ونجد لهذه المرأة صورة متشابهة في لوحة ( الفانوس) حيث كانت مستلقية على بساط مزخرف ومشيرة إلى الفانوس كرمز للنور الذي في باطنها، لان بصيرتها هي التي كانت تعمل.. وفي لوحة ( العودة إلى الجذور) امرأة ضخمة الجثة نائمة على الشاطئ و( فتاها) يخوض في ماء النهر وهو ذاته ( ماهود) في مظهره المرسوم لا في سره المحتجب، وامرأته) التي رسمها هنا. لست من الأنس إلا في مناسبة ولا من الجن إلا في التصاوير..
وفي اللوحات أعلاه تشع المرأة بصفاتها الأنثوية الظاهرة التي أرادها الفنان أن تكون ميسما من مسكها الطيب تياهة يزدهيها شبابها، وفتنة متفردة في لطفها وظرفها مع لمسة حزن آسرة في ملامحها.. زمة مبسمها الذي يشقي ويشفي.. جسدها المكتنز عافية وجمالا وتناسقا..
تلك هي صفات ( المرأة) في لوحات ( ماهود احمد) في ظاهرها.. أما باطنها فانفعال بالصراعات وبالواقع وبطبيعة الحياة التي تحياها المرأة في ظل الظروف الصعبة التي كانت سائدة في المجتمع الزراعي المتأخر وبوسائل إنتاجه ودرجة تطورها.
فما هو بالفنان الذي يسبح فوق تلك الحقائق والظواهر إن له غاية في الفن.. وان شكل التعبير لديه يعكس روح الأفكار والرؤية المتقدمة التي يؤمن بها كأسلوب حياة.
وكما علم اله دودة القز كيف تصنع الحرير، تعلمنا الفنون الإنسانية المبدعة كيف إنها تولد من حالات المجتمع ومن خصائصه وظروفه.. وكيف إنها تعكس تصور الفنان للكيفية التي يسير بها المجتمع ويتطور في تأريخ الأمة..
إزاء ذلك كله فان تجربة ماهود احمد كانت صادقة كل الصدق في تثبيت الوضع الاجتماعي لأشخاصه المرسومين حتى كأنك تشعر من أية طبقة انحدر هذا الرجل وتلك المرأة وفي أي وضع معاشي يحيا هؤلاء الفلاحون وأولئك الأطفال.
كان يُعنى بخلق الانسجام بين الموضوع وبين مزاجه فبلور بذلك الجانب التعبيري في نزعته الواقعية وجعلها تشتمل على حس معمق بالبيئة الاجتماعية ورموزها وقد ظهرت لوحاته بهذا الموقف الاجتماعي ظهورا صعبا، إذ انه تلمس موقفه تلمسا.. ولكن تجربته شقت طريقا صعبة حطبها بفكره وجهده وموقفه بعد أن تجاوز لجج ( الستينات) وخلص ( ذهب) تجربته من ( زبد) التأثيرات الأجنبية التي كانت سائدة كالتجريدية الذهنية الشائهة والشكلية العقيمة..
انبثقت تجربة ( ماهود احمد) كالنبع الصافي في مجرى لم يكن احد يفكر العوم فيه ولكن لرائحة المستقبل شفاعة أبانت عن عمق رؤيته. فأعطى بذلك لتجربته بعدها الاجتماعي وشروطها الإنسانية وأكد للفن أخلاقا نقدية حتى غدونا نميل إليها بشكل أعمق وصرنا نحب رؤيته المترعة بالثورية و( ماهود احمد) دقيق التوازن بين المنفعة التي يتعرفها العقل والجمال الذي يتعرفه لشخوصه المرسومين، يمثلوننا جميعا نحن الفقراء الذين نريد ترجيح فعل المستقبل لصالحنا بمقدار رجحان كفة الموقف الجمالي الواعي لتطور المجتمع..
لماذا نتذكر لوحات (ماهود احمد) دون سواها من اللوحات التجريدية الشائهة ومن التجارب الشكلية المثالية ؟ لماذا نتذكر لوحات كاظم حيدر ونزار سليم وفائق حسن وجواد سليم ؟ لماذا نتذكر ونميز ؟ ونقدر ونقرر ؟ لو لم يكن في مخزون ذاكرتنا مثل هذا الغنى والاكتناز المعرفي لما كان بمقدورنا بناء أية لبنة في صرح الحضارة.. ولو لم تكن ( لوحات ماهود احمد) مشفوعة بتلك الذاكرة لما كشفت تجربته الفنية عن مداها وأبصرتنا بأصولها الاجتماعية ولأبعدنا عن غاية الفن ودوره في الحياة الاجتماعية. لكن (ماهود احمد) قد تناول جانبا مهما من شرائح المجتمع العراقي.. في عالم الاهوار.. والفلاحين وجعلها تجربة تمارس دورها المؤثر في عيون وأفكار المشاهدين وأحاسيسهم وطبائعهم.. تناولها كما هي في مجتمعه ولكنه حملها بأفكاره هو بأحلامه عن صنع ألذات وعن مستقبل هذه الشريحة التي ينتمي أليها في الأصل.. ولوحاته تشير وتحدد خطة العام بشكل متماسك ومرتبط فكريا بصياغة متميزة ومعالجة متقدمة منحها حبه وجهده وعبرت عن ( معطى الحرية) في تحديد مضمون عمله الفني.. وذلك عنصر يسبغ على تجربته سمة ملونة بالثقة والاطمئنان..ان شكل العمل الفني بوحداته المكونة لمعناه أو تصميمه يتحدد بمضمونه والفنان المبدع، هو الذي يكون بتصوره الخاص عما يحيط به رؤيته وطابعه وهو ينشد بذلك وحدة الشكل والمضمون وقيمتها الجمالية والاجتماعية.
من النماذج المختارة لوحة ( المرأة) التي رسمها ( ماهود احمد) بالزيت عام 1980م، تحمل إلى المشاهد ذلك الإحساس، وفي اللوحة فتاة تحمل بيدها ( مرآة) تتطلع إلى حسن وجهها، وقد ارتدت ثوبا فضفاضا وأمامها مساحة واسعة من ( مسطح ماء الهور) في موسم ( فيض المياه) لهذا اتخذ له لونا طينيا على اخضرار من الموج ، وكانت الريح شرقية دفعت بخصلات شعرها إلى الشمال الغربي مكونة حركة متناغمة خاضعة إلى نفس حركة مياه الهور ومتعاكسة واتجاه طيات ثوبها، وهي تهدي بنظراتها- خلال مرآة نفسها- حزنها إلى المشاهد كما أهدى ( ضيف يوسف) المرآة ليتذكره كلما نظر إلى وجهه، وهكذا فان صنع الجميل لا يرى ألا من اجل العين المبصرة.. ومتى كانت الألحان من اجل إذن صماء ؟
نتأمل اللوحة مرة أخرى ونندمج بتفاصيلها وخاصة ( بعينيها) الواسعتين وشفتيها المزمومتين على أمر حارق وخزامتها التي تطوق وردة انفها بدلا من إصبعها.. وقسمات وجهها الفاتنة:
همت بإتياننا حتى إذا نظرت إلى المرآة نهاها وجهها الحسن
كل ذلك الوصف يتقرب إلى المشاهد بالنوافل حتى يحب العمل الفني.. وإذا ما أحبه فانه سيفهم كيف يعاني هذا الرسام وكيف يفكر خفية عندما يختلي مع لوحته حيث تتفاعل عض الحقائق المحتجبة وتبقى ( اللوحة البيضاء) أمام الفنان كما يبقى الطفل بعد ولادته صامتا حتى يتعلم الكلام.. ومتى ما عرف المشاهد كيف يرى اللوحة ويتفاعل معها، فستتحول ( بصيرته) من رؤية الغراب إلى رؤية الطاووس وكما علم الله النحل كيف تصنع الشهد، سيتعلم المشاهد كيف يقرأ العمل الفني الإبداعي فيدرك حقيقته ويفضح سره كما يفضح الربيع سر البذور تحت الأرض.. ويأتي دور الناقد الموضوعي ليقرب إلى المشاهد التفاصيل التي أدركها في الأثر الفني فيكشف عن لون الخيال في باطنها، ومن يكتب بدون بصيرة عن التجربة الخلاقة في الفن فانه سيكشف عن سريرته كما تكشف شقائق النعمان عن باطنها.. وفي جميع لوحات ماهود احمد تشكل المرأة عنصرا أساسيا هي ألام – الأرض – العطاء – المستقبل. وهي ( الحالة) والضرورة والفعل المبدع والرمز والحافز، وهي تمثل قيمة اجتماعية جوهرية في مجتمع نام محاط بخلفية ثقافية من الأخلاق والقدرية وفيها نصيب كبير من التأثير الروحي الذي يحز من ألانا السفلى منذ قرون متباعدة وها هو ( ماهود احمد) يرى في جمال المرأة العراقية رمزا لمهمته الاجتماعية التي يحملها من وعيه التاريخي وإدراكه الثقافي، ما يجعل تجربته تعبيرا وتفسيرا لدور الفن الحقيقي في الحياة وهو لا يبخل بحبه لها، يهبها كل ما تشتهيه المرأة من زينة وحلي وجمال وفتنة فهو يصورها ممتلئة بالعافية وقد بلغ به الهوى أن زين جسدها بالوشم، إذ انه نقش عليه بالإبرة صورا وأشكالا مزخرفة وهندسية ونباتية ودوائر وأهلة وما وهن قلبها من ضربا أبرة الوشم، لأنها ترى في ذلك ( خشلا) يوازي في دلالته (خزامة الذهب) والوردة و ( الكترا) والمعاضد والقلائد.. وكان يختار مع ذلك الوشم أجمل ما يطرز ملابسها من نقش وزخرف زاه بالألوان البراقة التي تحبها ( المرأة الجنوبية أو الشمالية) ليم بها محاسنها ومفاتنها..ويخضب ( الفنان) أقدام نساء ( لوحاته) بالحناء ويعصب رؤوسهن بعصائب من الجوهر ويضع لهن فوق وشم الحاجبين الأخضرين ( مسكا) يصوره الفنان باللون ( الاوكر المخضر) كلون ( الديرم) و( السعد) بعد أن وهن قلبه من ضربات إبرة الوشم على البدن واليدين والكتفين والكشحين بدون أن يصيبهن ضٌر لأنهن ينشدن تثبيت لحظة الجمال.. والحقيقة الأخرى: أن لكل حالة وصفة وسمة يرسمها الفنان ( ماهود) في لوحاته، قصة في الموروث الشعبي، وعلاقة اجتماعية مرتبطة بدرجة تطور المجتمع العراقي وخاصة في ( جنوب العراق) بواقعه وخواصه وخلفياته الحضارية، وبتفسير بعض ظاهراته النفسية والجمالية..
وتلك هي صفات الأشياء وخصائص الأفكار في المواضع التي يرسمها فهو فنان لا يصطاد ظل الطير، بل يسعى أليه سعيا، ومن هنا نؤكد أن جمال مواضيعه يكمن في ذواتها لا في الانطباع المتكون عنها وحسب..لماذا يرسم المرأة ( المتمدينة) ضعيفة ( رشيقة) شاحبة ويرسم (لقروية) جميلة، قوية، حيوية المظهر ؟
إن ( ماهود) نقل لنا رأي الرجل ويميز نظرته إلى المرأة في الوضعين (المدني – والريفي) حيث تختلف نظرة الرجل الريفي في المرأة المتمدنة عن نظرة الرجل الحضري للمرأة القروية.. كذلك قارن بين أقدام نسائه وارتباط ذلك بالأرض التي تفلحها من سواها من
( الحضريات) وربطه بمفهوم العمل وبقيمة الجمال الناتجة عنه قصد المنفعة.. انه لا يرسم من العدم ولا يجني من لوحاته اللاموقف فهل سبق وان ( جنيت) الورد من لفظة ( الورد) ؟
ونرى ( رمز المرأة) في لوحات أخرى وقد اتخذ له دلالات مختلفة وإشارات متنوعة، ففي لوحة ( الشمر) أو ( الدجال) التي رسمها بالزيت عام 1972م، تظهر المرأة ، والأم والزوجة والأخت ( عراقية) روحا ومظهرا ودلالة جمع الفنان فيها كل صفات الظاهر وريحان الباطن أمام رعب الدجال قاتل ( الحسين بن علي) حامل راية الموت وسلاح الدجل والافتراء، ويعتلي جوادا مهانا بجرس الفسق وملتحفا بسرج موشح بالقنابل و( بالدولار الأمريكي) والنجمة الصهيونية.. انه دجال القرن العشرين، وقد أظهره بدرجات حمراء حادة تضادت مع الخلفية الداكنة المحيطة باللون الأزرق والبنفسجي محتشدة بوجوه النساء الحزينة، حيث أكد من الجانب الأيسر من اللوحة على تصوير ( أم) تحمل في أحضانها طفلا وقد مدت يدها باتجاه يمين اللوحة لتملأ مساحتها ويتجسد في ملامحها رفض وصرخة فزع من راية الشمر (الدجال) المحمولة على( رمح) الغدر والموت وخلفها ( هودج) ( السبايا) وقد اخذ هيئته من الهوادج الشعبية وفي أرضية اللوحة نساء نائحات ومقطع من شناشيل عربية قابلها في الطرف الأيمن (ضوء شمعة) وسط ظلمة الماضي المتباعد في زمنه..
الوجوه المرسومة في لوحاته هي وجوه أمه وأخواته وأهله وذويه لأنه يشعر بها شعوره بالانتماء الداخلي والاجتماعي لهم، ينتمي إلى ذلك انتماء البذرة للتربة.. نساؤه في لوحة (الدجال) ، رافعات رؤوسهن غاضات أبصارهن محترقة أكبادهن من شدة البكاء، يسحن دموعا هاملات وكأني أرى كل واحدة منهن تقول:-
نزف البكاء دموع عينك فاستعر عينا لغيرك دمعها مدرارا
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عينا للبكاء تعارُ
ومع هذا فسماء لوحته خضراء اشتملت على سحاب هي مصدر الخضرة وشارة سعد للمستقبل..
وماهود احمد يعاود الاغتراف من مادة تاريخه ومن موروثه الشعبي في لوحته ( مرد الرأس) التي رسمها بالزيت عام 1972م، ويكرر ذلك العود في لوحه ( أسد بابل)، عام 1973م، وكأنه يضع ثلاثية لموضوع واحد بمعالجة واحة وبرموز متوازية يقارن الاستعارة التاريخية (في الماضي) بالاستعارة الشعبية ( في الحاضر)، وهي تمهيد لثلاثيته ( الزرقاء) ولكن بحس أسطوري (تأريخي): بانتظار عشتار (1971) ولوحة الأسطورة الزرقاء (1972)، والحصان الأزرق(1979)، وقد استعار أفكارها من ملحمة( كلكامش) وقد سبق أن حقق ذلك للأستاذ (طه باقر) في رسوم الحفر التوضيحية لكتابة ( ملحمة كلكامش) في اللوحة الأولى من الثلاثية، نرى فتاة وحيدة بجوار حصان وهي تنتظر عودة كلكامش.. إنها ( اشخار) المرأة التي نصحت كلكامش بعدم جدوى البحث عن الخلود لان الحياة الحقيقية كما عبرت له عن ذلك: ( أن تأكل وتشرب وتنام في أحضاني).. وكأنني أتخيل كلكامش لدى ملاحظتي له يقول: ( لا كان قلبي فقد شقيت به، وعندي حسرة في الحصول على الخلود وقد شامت عيناي دمي)..
وفي اللوحة الثانية نرى الفتاة ذاتها تحتضن تمثالا هو رمز الأرض والجنس على هيئة طوطم سومري، والفتاة بجوار كوخ على ضفة النهر: ذات الغربة، ذات الرموز..
وفي اللوحة الثالثة، اشتد بها الحزن من الانتظار وباتت اسخن خلق الله.. عينا ونراها في لوحة (السأم) عارية وبجوارها ( صينية) الشاي وكأنها خرجت لتوها من العالم الشبيه بالرحم، بلا حركة ولا صوت لأنها معتلة بمن تهوى:-
قالوا قد اعتل من تهوى فقلت لهم ويلي إذا لم أجد مثل الذي وجدا فأن خالفنا للحب مبتدعا لم يفرد الروح لما افرد الجسدا..
ونجد لهذه المرأة صورة متشابهة في لوحة ( الفانوس) حيث كانت مستلقية على بساط مزخرف ومشيرة إلى الفانوس كرمز للنور الذي في باطنها، لان بصيرتها هي التي كانت تعمل.. وفي لوحة ( العودة إلى الجذور) امرأة ضخمة الجثة نائمة على الشاطئ و( فتاها) يخوض في ماء النهر وهو ذاته ( ماهود) في مظهره المرسوم لا في سره المحتجب، وامرأته) التي رسمها هنا. لست من الأنس إلا في مناسبة ولا من الجن إلا في التصاوير..
وفي اللوحات أعلاه تشع المرأة بصفاتها الأنثوية الظاهرة التي أرادها الفنان أن تكون ميسما من مسكها الطيب تياهة يزدهيها شبابها، وفتنة متفردة في لطفها وظرفها مع لمسة حزن آسرة في ملامحها.. زمة مبسمها الذي يشقي ويشفي.. جسدها المكتنز عافية وجمالا وتناسقا..
تلك هي صفات ( المرأة) في لوحات ( ماهود احمد) في ظاهرها.. أما باطنها فانفعال بالصراعات وبالواقع وبطبيعة الحياة التي تحياها المرأة في ظل الظروف الصعبة التي كانت سائدة في المجتمع الزراعي المتأخر وبوسائل إنتاجه ودرجة تطورها.
فما هو بالفنان الذي يسبح فوق تلك الحقائق والظواهر إن له غاية في الفن.. وان شكل التعبير لديه يعكس روح الأفكار والرؤية المتقدمة التي يؤمن بها كأسلوب حياة.
وكما علم اله دودة القز كيف تصنع الحرير، تعلمنا الفنون الإنسانية المبدعة كيف إنها تولد من حالات المجتمع ومن خصائصه وظروفه.. وكيف إنها تعكس تصور الفنان للكيفية التي يسير بها المجتمع ويتطور في تأريخ الأمة..
بقلم شوكت الربيعي