الجامعة العراقية: ضغط من الخارج، وخمول من الداخل

يعمل الدكتور ماهود احمد في كلية للفنون في محافظة السليمانية شمالي العراق، وهو بالاضافة الى عمله الاكاديمي فنان تشكيلي معروف داخل العراق وخارجه. وقد غادر منذ سنتين تقريباً بغداد وانتقل للحياة والعمل مع عائلته الى كردستان، بسبب مجموعة من التهديدات طالته وعائلته، وكادت أن تؤدي الى اختطاف أبنة له. هذه الحكاية تتكرر مع اساتذة آخرين، غادروا بغداد وبعض الجامعات في المحافظات العراقية الأخرى، الى كردستان او خارج العراق، والسبب في أغلب الاحيان لا علاقة له بالسعي الطبيعي للحصول على فرص عمل أفضل، وانما هرباً من القتلة والخاطفين. وحسب بعض الاحصائيات الصادرة عن وزارة التعليم العالي العراقية فأن أعداد الاساتذة الجامعيين الذين غادروا العراق منذ نيسان 2003 قد تجاوز الـ 3000 أستاذ في اختصاصات مختلفة. وهناك من يتحدث عن 250 استاذاً عراقياً تمت تصفيتهم خلال الاربع سنوات الماضية، بذرائع شتى، تبدأ من الدوافع الطائفية والسياسية، ولا تنتهي عند العداوات الشخصية، وتصادم الاساتذة مع بعض الطلبة. وهناك من يروي داخل حرم جامعة بغداد عن حوادث تشابك بالايدي وضرب بين الطلبة والاساتذة تحدث بين حين وآخر، ومنها الحادثة التي وقعت في كانون الثاني من عام 2005 حين أعتدى مجموعة من الطلبة في كلية الاعلام على احد الاساتذة بالضرب وطالبوه بمغادرة الجامعة. في الحقيقة لا توجد احصائيات دقيقة لحوادث الاعتداء على الاساتذة، كما ان رقماً ثابتاً عن اعداد القتلى من الاساتذة والتدريسيين يبقى متحركاً بسبب بقاء الظروف المسببة لهذا العنف تجاه الاساتذة وغيرهم على حالها حتى الآن. من جانب آخر يتكدس الاساتذة في محافظات كردستان، ولا يجد بعضهم عملاً إلا بصعوبة بسبب أكتفاء الجامعات وعدم قدرتها على استيعاب اساتذة جدد. ويمكن تصور حجم الضغط الواقع على الحكومة الاقليمية هناك فيما لو نظرنا الى الاختصاصات المختلفة من اطباء ومهندسين وكفاءات فنية وعلمية متنوعة، تضع خيار الهرب الى كردستان في سلم اولوياتها، حين يسوء الوضع لديها داخل بغداد. وبالتأكيد هذه الصورة لا تحمل كل الحقيقة حول وضع الاساتذة في جامعات بغداد، فيما لو نظرنا الى الخط البياني لأعمال العنف الموجهة ضدهم، فالوضع الآن افضل بكثير عنه قبل اربع او ثلاث سنوات، ومشكلة فقدان الأمان لدى الاستاذ الجامعي تظل مشكلة مصدرة من خارج الجامعة، من تداعيات الاضطراب الامني العام الذي يشمل البلاد بأسرها، وغياب سلطة القانون وتسيد المليشيات والجماعات المسلحة. وهذا التداعي الأمني يجعل الطلبة ـ من زاوية نظر أخرى ـ مستهدفين أيضاً، وقد حملت لنا السنتين الماضيتين عدداً من ابشع حوادث التفجير المروعة ضد طلبة الجامعات العراقية، كانت اعنفها تلك التي أخذت أرواح أكثر من سبعين من الطلبة والطالبات فضلاً عن مئتي جريح عند بوابة الجامعة المستنصرية في مطلع 2007. العديد من طلبة المحافظات نقلوا دراستهم الى جامعات قريبة من مناطق سكنهم، بعد ان غدت الدراسة داخل بغداد محفوفة بالمخاطر. كما ان طلبة آخرين خسرو سنة أو اثنتين من دراستهم بسبب الاوضاع الامنية المتردية في مناطقهم، خصوصاً أولئك الطلبة القادمين من محافظة ديالى (شمالي شرق بغداد). كما ان الدراسة في جامعة ديالى سيئة وشبه متوقفة في افضل الاحوال. وتغدو الصورة اكثر قتامة فيما لو فكرنا بالطالبات. لقد اطلعت بشكل شخصي أثناء اعدادي لتقرير عن العوائل المهجرة من ديالى والتي لجأت الى بغداد، على العديد من الطلبة الذين ضيعو سنتهم الدراسية، بسبب اضطرار عوائلهم الى الهرب من نيران الجماعات المسلحة. وأحتجت طالبة قانون في جامعة ديالى على عدم موافقة جامعة بغداد على استضافتها لأكمال دراستها. ومطالبة هذه الجامعة لها بجلب وثائق نقل من جامعة ديالى، ولأن هذه الطالبة غير قادرة على العودة الى ديالى التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة فأنها تقضي اغلب أوقاتها تذاكر داخل هيكل البيت الذي لجأت اليه عائلتها للإقامة المؤقتة في احد احياء بغداد. متمنيةً ان تنتهي محنتها قبل موعد الامتحانات النهائية. الشيء الذي يستطيع المراقب ملاحظته في اجواء الجامعات العراقية هو اصطباغها بالصبغة الدينية، وهو أمر تعمل عليه جماعات الطلاب بحرية كبيرة، مستثمرة خشية الاساتذة من الاعتراض على مظاهر التدين العلني. واللون الديني الطاغي على اجواء الجامعة العراقية لا يقف عند حدود التحفظ الاخلاقي، وانما يأخذ بعد الممارسة السياسية الصريحة ذات اللون الطائفي. وهو أمر تقوم عليه بالدرجة الاساس اتحادات الطلاب المختلفة، والتي يمكن ارجاعها بسهولة الى واجهات الاحزاب العاملة في الساحة العراقية. والخلل في طغيان السلوك السياسي الديني هو في إعاقته لسلطة القانون داخل الجامعة، وخلق موجهات خارجية على سياسات الجامعة تؤثر بشكل كبير على سير العملية التعليمية. وفي الحقيقة هذا الكلام لا يرقى الى مستوى الكشف عن اسرار وخبايا، فالتدخل السياسي في الجامعة العراقية اصبح واضحاً ومعلناً، وقد طالب العديد من رؤساء الجامعات العراقية في بغداد والبصرة والموصل وغيرها من المدن العراقية في مناسبات عديدة بأبعاد السياسة عن اجواء الجامعات. وقد أقيم مؤخراً مؤتمر كبير في حرم جامعة الكوفة ضم العديد من رؤوساء واساتذة جامعات بغداد والمحافظات، طالب فيه المجتمعون بأستقلالية الجامعة العراقية في التمويل والتخطيط والمناهج الدراسية، وقد حضر هذا المؤتمر نائب رئيس الجمهورية العراقي عادل عبد المهدي وأمضى على كلام المؤتمرين. ولكن المشكلة لا تتعلق بالاعتراف بحقيقة ما تعانيه الجامعات العراقية، او بالدعوات الى وضع حلول عاجلة، وأنما بما يجري على الارض فعلاً. فبالاضافة الى هيمنة اجواء التشدد الديني والتدخل السياسي وضغط جماعات الطلبة المنضوية في مليشيات وجماعات مسلحة، فأننا نرى غياباً تاماً لأي تخطيط منهجي لتطوير هذه الجامعات، بل ان هناك نفساً يسعى للتخلي عن بعض المكتسبات المدنية، فرأينا في أكثر من مناسبة دعوات تطلقها عضوات في البرلمان العراقي لفصل الطلبة عن الطالبات في الجامعات العراقية، تكريساً لذلك العمل الذي كان نظام صدام قد بدأه مع مطلع الالفية الجديدة، فشطر معهد الفنون الجميلة الى معهدين، واحد للفتيان وآخر للفتيات. وهناك مضايقات تتعرض لها اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، تسعى لسلب هوية هذه الكلية، بتحريم النحت والموسيقى وما الى ذلك، وهي مضايقات تصدر من جماعات اسلامية داخل الاكاديمية وخارجها، ومن كلا الطائفتين في البلاد. ولو وضعنا في الحسبان أن المستوى الاكاديمي للدراسة الجامعية كان قد انحدر بشكل كبير خلال فترة العقوبات الاقتصادية في تسعينيات القرن الماضي، بالاضافة الى اجواء التسييس الرسمي، والتدخل في منح الشهادات لأعضاء كبار في حزب البعث المنحل. وانقطاع الصلة بين الجامعات العراقية وجامعات العالم، وغياب المتابعة لما يستجد من مناهج حديثة ومعطيات معرفية معاصرة، فأننا سنصل الى صورة بالغة القتامة. حتى في جامعات كردستان، التي تتمتع باجواء علمانية صريحة، نجد هناك من الطلبة من يشكو من تدخل السياسة، وتخلف الدراسة. هذه المشكلة يعرفها الاساتذة وطلبة الدراسات العليا في العراق جيداً، وقد اكثر العديد منهم الدعوة الى تجديد البنية التحتية الفعلية لمؤسسات البحث العلمي الاكاديمي بما يتلائم مع مفاهيم البحث العلمي في الدول المتقدمة. ومن يطالع الصحف العراقية بانتظام سيقرأ بين حين وآخر انباءً عن اتفاقيات مع جامعات اميركية واوربية لتحريك الاجواء الخاملة في الجامعة العراقية، وعن بعثات دراسية للطلبة المتفوقين، ومشاريع اخرى مختلفة. لكن العديد من الطلبة يعرفون أنها خطوات صغيرة واصغر مما يعلن عنه، كما ان مصادر المعلومات، واهمها المكتبات الجامعية مازالت تعاني من المشكلة نفسها التي طبعت فترة التسعينيات، وهي قلة المصادر، وقدمها. الغالبية من الجامعات العراقية مازالت تعمل وتخرج طلبة جدد كل عام، ولكن المشكلة ليست في استمرار الدراسة بشكل أو بآخر، والذي يجري احياناً بدوام جزئي، وينقطع في احيان اخرى بسبب حضر تجوال او اضراب للطلبة، او تغيب استاذ او عدم وجود مدرس لمادة (خصوصاً لدى طلبة الدراسات العلمية). او بسبب الغيابات المتكررة (بعذر جاهز هو الوضع الامني). وأنما في حاجة البلاد الماسة لكوادر تخصصية، يفترض ان الجامعة هي من تكونها. وهي مشكلة لا تلقى على عاتق الجامعة فقط، وانما (وبالدرجة الاساس ربما) تتحملها الحكومة والطبقة السياسية، والاجهزة الامنية. التي يدفع عملها المتلكئ وعدم اتفاقها المؤلم على خريطة طريق واضحة للبلاد، الى دفع الطلبة المتخرجين من معهد النفط لقضاء فترة التدريب في المستشفيات ومحطات بيع الوقود، بدلاً من العمل المطور لخبراتهم داخل مصفى الدورة، وهو المصفى الرئيسي، والذي مايزال منذ اكثر من سنتين ضمن حدود منطقة الدورة الخطرة أمنياً داخل العاصمة.